لطالما شغلتني وصية الحكماء ( اعرف نفسك ) ولكن كيف ؟
ليست هناك فرصة أفضل من شهر رمضان ، الجو الروحاني والنفحة الربانية التي تخص هذا الشهر الكريم تهيئ النفس للمراجعة ،وممارسة العبادات بشكل جماعي تعطي دفعة قوية لتيار الإيمان يتغلغل داخل القلب .
بعد صيام الجوارح نهارا ، وقيامها تعبدا وخشية أثناء الليل وتلاوة آي الذكر الحكيم
تصفو النفس وتعلو الروح علي الطين الذي خلق منه الإنسان ، حين يتيسر ذلك يبدأ المرء يخطو خطوات داخل نفسه ، يفتح بابها ويدخل ، أخيرا وبعد محاولات كثيرة ربما دامت لسنوات يجد بابها المراوغ الذي كان يختفي كلما أمسك به ، لم يكن يجد له مقبضا أو مفتاحا وعندما يدق عليه كان يختفي .
تبدو الرائحة في الداخل غريبة بعض الشئ فهي تشبه رائحة الوليد عندما يخرج من رحم أمه ، أما الرؤية فضبابية تنجلي حينا وتظلم أحيانا أخري ، تتعثر الخطوات الأولي في كومة من المشاعر الساذجة كانت هشة جدا ولكن عندما تطايرت فاح منها أريج المسك والعنبر .
في الخطوة التالية مباشرة عثر علي كنزه ، مبادئ وقيم تمثلها والتزم بها طوال العمر ، كان لها وميض الماس و أصالته ، في جوانب أخري وجد مخلفات ونفايات لا يدري كيف تراكمت ، في الخلفية كانت هناك أشياء أخري لم يستطع أن يتبينها جيدا ، كان الدخان الضبابي يحول بينه وبينها لكنها كانت تلوح له غير مستحبة أو ربما مخيفة هل هي وساوس ؟ هواجس ؟ مخاوف ؟ حماقات ؟ ربما .
وقف متعجبا كيف لم يدرك من قبل أن هذه النفس قابلة لإعادة الترتيب ؟؟
شمر واجتهد ، قرر أن يبدأ بالتخلص من النفايات مثل العلاقات غير المجدية وثرثرة التليفون والتحديق في التلفزيون والأوهام والأحلام المستحيلة .
ثم يعيد ترتيب الأولويات الأهم فالمهم ، ويحي مشروعاته الهادفة النبيلة التي تشاغل عنها ، أما الرؤية الضبابية فنور الإيمان وحده هو الذي يقضي عليها .
بعد فترة ليست طويلة كان قد حقق جزءا من أحلامه وسدد بعضا من ديونه تجاه من أحسنوا إليه وكان لهم الفضل عليه ، وأعاد ترتيب نفسه من الداخل ، طرد منها الفوضي والتكاسل والعشوائية فسكنها الجد واليقين والطمأنينة .
أما الخطوات العملية لتحقيق ذلك فهي متاحة في رمضان :
الصيام ، قال صلي الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول ربنا تبارك وتعالي ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )
صلاة التراويح ، قال صلي الله عليه وسلم ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
ليلة القدر وتلاوة القرآن ، قال تعالي في سورة القدر ( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتي مطلع الفجر )
زكاة الفطر وفضل الصدقة طوال الشهر ، وفيها كل معاني العطاء والتكافل والتعاون بين المسلمين حيث لا تقتصر علي الجانب الروحي فقط ولكن تتعداه إلي الجانب المادي ، وهي ليست عبادة خاصة تعود بالنفع علي صاحبها وحده بل تتعداه لصالح المجتمع كله .
هناك أيضا صلة الرحم والتزاور وتذكر من نسينا من أحبابنا في زحمة الأيام ، وخاصة من يحتاجون تلك الصلة من كبار السن والأيتام وكل من يمكننا إدخال البهجة عليه ومؤازرته .
في رمضان اعرف نفسك وأعد ترتيبها من الداخل ، ثم جندها لفعل الخير والطاعة في شهر جهاد النفس ، اللهم بلغنا رمضان ، وأعنا فيه علي الطاعة ، وتقبل منا يا أرحم الراحمين .
ايمان القدوسي
صحفية و كاتبة متخصصة في مجال الأسرة

